الربيع العربي الذي ما اكتمل
عبدالباري طاهر:
* في مصر، كما في اليمن، كان الطرف الأقوى الإسلام السياسي (الإخوان) والجيش، فالجيش المصري انحاز للثورة فيما انخرط الإخوان فيها وانتزع قيادتها من الشباب وجبهة الإنقاذ بتنسيق مع قيادات الجيش في المراحل الأولى.
* الإخوان المسلمون الذين يقرؤون في الانتخابات لعبة تكتيكية للوصول إلى الحكم للأبد، غاب عنهم أن البلاد العربية لا يمكن أن ينفرد فيها بالحكم حزب أو قبيلة أو عسكر، وأن الانتخابات فيها بحاجة للتوافق والتشارك وهو ما تجلى في مصر واليمن أكثر من تونس
* قطع الطريق على انتصار الثورة الشعبية السلمية هدف مشترك للإخوة الأعداء في مصر: العسكر والإخوان وتتشارك معهم كل القوى التقليدية.
* زعماء القبائل والأحزاب والقادة العسكريون شركاء صالح في الحكم، هم من ورثه حيا، وأعادوا التشارك معه بالإكراه، بينما أزيحت الثورة السلمية وحصلت أحزاب الاشتراكي والناصري والبعث وحزب الحق، على رشوة اللئيم
* لا يدرك العسكريون أن اقتلاع أي جماعة سياسية أو فكرية أو ثقافية بالسلاح، مستحيل وخبرة البشرية كلها تدلل على استحالة قهر الكلمة بالسلاح
إذا تصارع فيلان فالزرع هو الضحية (قول مأثور)
هناك حقائق ووقائع لا ينبغي نسيانها أو القفز عليها.
ثورات الربيع العربي جاءت من قاع المجتمع أو المجتمعات العربية بصورة عارمة عفوية وتلقائية. لعب فيها الشباب المستقل بشكل أساس الدور الأهم. وكان للميديا فيها دور مشهود. انضمت إليها وساندتها ثم ركبتها الأحزاب السياسية، وبالأخص الأكثر نفوذا وتنظيما؛ تيار الإسلام السياسي "الإخوان المسلمون": تونس حزب النهضة، مصر الإخوان المسلمون، ومن ثم حزب الحرية والعدالة، وفي اليمن التجمع اليمني للإصلاح. وكلها تشهد تصارعاً بصور مختلفة ومتفاوتة.
في تونس، أشركت النهضة مستقلين: منصف المرزوقي رئيس الجمهورية، وبعض الحقائب الوزارية، مع تشارك محدود في المجلس التأسيسي. وهذا الإشراك المحدود لم يمنع التصارع القائم، ولكنه لم يتخذ الصورة المروعة كما في مصر.
أما في اليمن، فإن ضعف الأحزاب القومية واليسارية، وشيخوخة وانتهازية بعض قياداتها، فرضت عليها القبول بفتات بعض الوزارات. و"كوّش" التجمع الإصلاحي على مفاصل الدولة، واستبعد المستقلين والشباب الثائر بسبب من ضعف مؤسسات المجتمع المدني، وتفكك قيادات الشباب والشابات اللاتي أسهمن منذ البدء في إبزاغ فجر الربيع العربي، وهو ما يترك موجات غضب واحتجاج تتمازج للأسف بالطابع التقليدي، وبصراع الإسلام السياسي: السني -الشيعي أو القبائلي أو الجهوي: شمال -جنوب.
ويغيب صوت الشباب غير المنظم. لعبت المبادرة الخليجية دور الملجم والمفرمل، فهي لا تريد الحرب، ولكنها لا تريد انتصار الربيع أكثر.
في مصر، اتخذ الصراع أبعاداً دموية ومدمرة. فالإخوان الذين ركبوا موجة الثورة التي فجرها حدث فردي: تعذيب وقتل خالد سعيد، شأن الثورة التونسية التي فجرها جسد البوعزيزي المحروق، القشة التي قصمت ظهر البعير، أو القطرة التي أفاضت الكأس، ولكنها في مصر، كما في تونس، تحولت بسرعة البرق إلى ثورة شاملة ذات أبعاد اجتماعية اقتصادية وثقافية، وتشارك ألوان الطيف المجتمعي والفكري والحزبي فيها.
في مصر، كما في اليمن، كان الطرف الأقوى الإسلام السياسي (الإخوان) والجيش، فالجيش المصري الحاكم أصلا انحاز للثورة لسبب أساس "رفض التوريث"، وانحاز لإقصاء رمز الفساد والتوريث حسني، الآتي من قلب الجيش، ما ترك له مكانة في الثورة. أما الإخوان فانخرطوا في الثورة، وفي ما بعد القيادة التي انتزعوها من قيادات الشباب وجبهة الإنقاذ، وجرى تنسيق مع قيادات الجيش في المراحل الأولى.
انقلبت قيادات الإخوان باكراً على جميع الأطراف، فأقصت شباب 6 أبريل، وجبهة الإنقاذ، وأدارت الظهر للاتجاهات المختلفة من الليبراليين واليسار والقوميين، وجنحت إلى الانفراد. ارتكبت القيادات الإخوانية سلسلة أخطاء قاتلة: إصدار إعلان دستوري يحصن قرارات الحاكم، ويرفض الاعتراض عليها، ومد اليد إلى القضاء بتعيين النائب العام، والإساءات البالغة إليه بالتعيين والعزل، والاتهامات الجزاف، وتحريك المظاهرات ضده. وهو نفس ما عمله مع مجمع الإعلام، وإغلاق بعض القنوات، ومحاكمات صحفيين، والبدء في التشديد على الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وخوض معركة التفرد، وقتل بعض المتظاهرين (حادثة الاتحادية).
أصبح العسكر الطرف الثاني في المعادلة بعد إقصاء الأطراف الأساسية في الثورة، وربما قرئت نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية قراءة خاطئة، وجرى الابتهاج بالفوز المحدود، الذي يعود الفضل في جانب منه إلى قوى الثورة الخائفة من عودة رجال مبارك.
الإخوان المنتصرون لم يقرأوا الانتصار كما ينبغي؛ إقصاء قوى الثورة حصر التصارع بين الطرفين القويين: الجيش والإخوان. الجيش المصري أقوى جيش في المنطقة، ويراهن عليه في أي مواجهة محتملة وقائمة مع العدو الإسرائيلي. وهو ضمانة الأمن القومي، وأداة قمع الداخل في الوقت نفسه وأكثر! ويمتلك ما يقرب من 30% من القدرة الاقتصادية.
كما أنه سناد وعماد الدولة العميقة في مصر وقيادتها لما يقرب من ثلثي قرن. صراعاتهم مع الإخوان دامية، فالعسكر الذراع القوية للدولة القومية منذ 23 يوليو 1952، كان في المواجهة مع المعارضة، وبالأخص الإخوان، سواء في رفض الوصاية على الثورة، أو في ما لحق من صراعات كان الإخوان دائما الضحايا: الاعتقالات والمحاكمات والإعدامات. سيد قطب وعبدالقادر عودة وغيرهما. فالصراع وفقدان الثقة موجودان سلفا، زادها وعّمقها جنوح الإخوان للأسلمة والانفراد، وإقصاء حتى حلفائهم في مسار الثورة القصير.
إسقاط التوريث هدف رئيسي للجيش، فهو يضمن بقاء المؤسسة العسكرية في الحكم، ويزيح خطر حكم آل حسني المرتبطين بشبكة الفساد الاقتصادي والتكنوقراط والبيروقراطية.
الإخوان المسلمون الذين يقرؤون في الانتخابات لعبة تكتيكية للوصول إلى الحكم وإلى الأبد، كما هو الحال في السودان وغزة، قد غاب عنهم أن البلاد العربية بسبب من تعدد وتنوع القوى الفاعلة والمؤثرة، وغياب التقاليد الديمقراطية، وميوعة وتداخل الحدود الاجتماعية، وضعف الفوارق الطبقية، وهيمنة القديم الثقافي، لا يمكن أن ينفرد فيها بالحكم حزب أو قبيلة أو منطقة أو عسكر. الانتخابات فيها بحاجة للتوافق والتشارك وعدم الإقصاء أو التهميش، وهو ما تجلى في مصر واليمن أكثر من تونس.
التصارع الدامي في مصر بين الجيش والإخوان، لا هدف له ولا عنوان غير الحكم وعوائده وفوائده.
الثورة العربية تعود في جانب إلى التأثير العولمي للمعارف البشرية، ولتأثير الصحافة الرقمية، ولارتباط منطقتنا بالعصر وتحولاته الرائعة. ولكن القوى التقليدية تحاول التقليل من أهمية ودور الشباب، وحصر التصارع بين القوى التقليدية المنحازة للماضي وصراعاته الجاهلية.
للإخوان المسلمين جذور عميقة في التربة العربية بعامة، وفي مصر بصورة أخص، وهي قوة شعبية تمتد إلى أكثر من 80 عاما، وتضم كوادر من مختلف التركيبة الاجتماعية، وهي أيضا تقليدية ومحافظة، وهنا سر قوتها وضعفها في آن، فقوتها آتية من مجتمعات تقليدية ومحافظة، فهي تعبر عن التركيبة المجتمعية التي تصل الأمية الأبجدية في غالبيتها إلى الثلثين، أما الأمية المعرفية فأكثر من ذلك بكثير، والفقر يعم غالبية السكان. أما الضعف فبرميها بالحريات العامة والديمقراطية، والانحياز للماضي، وعدم قراءة روح العصر وإبداعاته الخلاقة، والتصادم الدائم مع تيارات الحداثة والإبداع والتجديد، وارتباطها بالتكفير الديني والتعصب الطائفي والمذهبي.
كل ذلك لا يبرر القمع الفاشي الذي تعرضوا له عقب إقصائهم بالقوة من دولة انتخبوا لها، وفازوا فيها بالأغلبية في النواب والرئاسة. أخطاؤهم محسوبة عليهم، وينتقدون ويحاسبون عليها. ولكن حسم الخلاف السياسي بالقوة هو المحنة والكارثة التي تعاني منها مصر والأمة العربية كلها.
التف العسكر والإخوان على ثورة 25 يناير الشبابية السلمية: حقق العسكر هدف الإطاحة بالتوريث، وتمكن الإخوان من الوصول إلى الحكم عبر انتخابات أقصت الفلول والثوار والقوى السياسية المختلفة في آن. ثم تفجرت ثورة شعبية أكبر وأوسع من ثورة يناير، وكانت كفيلة بتعقيل الإخوان أو الإطاحة بهم، لكن الجيش "الحارس الأمين للدولة العميقة"، والذراع القوية لمصالحها، هب للإطاحة بالإخوان، ولقطع الطريق على انتصار ثورة شعبية سلمية لا تريد العنف، ولا تؤمن به، ولا تدعو إليه.
الرزية كل الرزية
إن قطع الطريق على انتصار الثورة الشعبية السلمية هدف مشترك للإخوة
الأعداء في مصر: العسكر والإخوان. وتتشارك معهم بطرق مختلفة وأساليب
متفاوتة كل القوى التقليدية. وقد يكون الأنموذج اليمني أوضح وأفضح، فالقوى
التقليدية: زعماء القبائل والأحزاب والقادة العسكريون شركاء صالح في الحكم،
هم من ورثه حيا، وأعادوا التشارك معه بالإكراه، ليكونوا الطرف الأقوى،
وبالأخص الإصلاح بركنيه: الإسلام السياسي والجناح القبلي، وحليفهم في الجيش
علي محسن، بينما أزيحت الثورة الشعبية السلمية بمباركة ودعم السعودية ودول
الخليج، وحصلت بقية أحزاب المشترك: الاشتراكي والناصري والبعث وحزب الحق،
على رشوة اللئيم.في مصر، لم يكن الإخوان الضحية وحدهم، فالمجزرة التي ارتكبت بحقهم في رابعة العدوية ونهضة مصر، والاعتقالات الكيفية والتعسفية التي طالت قياداتهم وكوادرهم، ومصادرة حقهم في الوجود، والحملات الإعلامية المسعرة، لا تلحق الضرر بالإخوان فقط، وإنما تطال الحياة السياسية والحريات العامة والديمقراطية والتطور الديمقراطي الذي يمثل العسكر قطعا لسياقه المتنامي منذ مطلع القرن الماضي، ولا يخفي الإخوان الكراهية والعنف ضده.
لقد أهدر عنف العسكر وثنائية الصراع العسكري الإخواني التطور الديمقراطي وانتصار الثورة السلمية.
انحياز القوى التقليدية للجيش، وانبهار الشارع المصري حالة مؤقتة، وسيفيق الجمع على قبضة الجيش التي تتعشق الارتداد بالمجتمع المصري إلى "مجتمع يبنيه العسكريون" بأدوات القمع المختلفة، وبإماتة السياسة، وتهميش اتجاهاتها المختلفة: القومية واليسارية والليبرالية. إن الحياة العامة والقوى الديمقراطية، وقبلهم جميعا الشعب المصري والأمة العربية والربيع العربي، هم الخاسرون جراء ثنائية تصارع العسكر والإخوان، وعدم قبولهم بمشاركتهم الجميع، ومصادرة ربيع الثورة العربية بصراع كالح ودام لا هدف له غير حكم الغلبة والتفرد والتكفير والتخوين.
يحاجج الإخوان المسلمون بالانتخابات "الشرعية"، وهو حق منحه 13 مليوناً، وخرج عليه أكثر من 30 مليونا يطالبون بإجراء انتخابات مبكرة. أما السيسي فيحاجج بالتفويض من قبل الأكثر من 30 مليونا، وهؤلاء كان مطلبهم المسموع والمرفوع لا للعسكرة لا للأخونة في الثورتين الشعبيتين 25 يناير والـ30 من يونيو.
الصراع الدامي والمميت بين العسكر والإخوان يميت السياسة والحرية والعدل، ويقوي كلاً منهما بفضل العنف والإرهاب، بمقدار ما يغيب الضمير والعقل.
لا يمكن لأي طرف منهما أن يدعي أنه صاحب الحق والحقيقة، وأنه وحده المدافع الأمين عن مصالح مصر والأمة. فمصالح مصر والأمة كلها لا تحقق إلا سلماً وعدلاً وحرية. وقد عانت مصر من الأخطاء حد "الجرائم"، وهي أخطاء متبادلة ومتوارثة، بل إن كل القوى السياسية في المنطقة العربية تشارك في صنع هذه المأساة: القوميون والبعث والناصريون والإخوان المسلمون، فالكل ضحية وجلاد، أو على الأقل يختزن الجلاد متوعدا بالعنف الثوري، خصوصا في لحظة العجز. ويتمحور الصراع بين هذه القوى من حول الحكم أكثر من تبلوره حول برامج ومناهج وأهداف. محنة الإخوان عبر مراحل الصراع المختلفة، هي المحاكم العسكرية، بينما كانت المواجهة مع القضاء المدني قاسية.
لا يدرك العسكريون أن اقتلاع أي جماعة سياسية أو فكرية أو ثقافية بالسلاح، هو المستحيل نفسه. وخبرة البشرية وتجارب الأمم والشعوب، بما فيها الشعب المصري والأمة العربية كلها، تدلل على استحالة قهر الكلمة بالسلاح. فالفكر والسياسة لا تحيا إلا بالتحاور والتفتح والتعايش، والاحتكام إلى إرادة الناس. أما القوة فتقوي الاتجاهات المغامرة والمتطرفة في كل الاتجاهات.
الشعب المصري بإرثه الحضاري كرأس للأمة العربية، وبخبراته المتوارثة منذ قرون، قادر على صنع أو إحياء ثوراته السلمية الممتدة منذ عرابي وسعد زغلول، والتي تعلم منها غاندي، وتتلمذ لها مانديلا، مرورا بكفاح اللجنة الوطنية للطلاب والعمال منتصف القرن الماضي، وصولا إلى 25 يناير 2011، والـ30 من يونيو 2013؛ الثورة المغدورة بالإخوان والعسكر.
الأولى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق