الجمعة، 4 يناير 2013

مناظرة حامية ... بين الشعر والنثر






قال النثر يوماً : في غمرة الحزن على عجزي عن نظم الشعر ، أتاني آتٍ ، كأنه المحارب أتى من صميم المعركة ، بيمينه سيف ماضٍ ، ويحملُ بين فكّيه لساناً قاضٍ ، ولا أظنه إلا شعراً محكم النظم ... فهتف بي أن يا أيها النثر أقبل على مناظرة بيني وبينك ، فإن فزت فيها علي منحتك سيف البلاغة وسلاحَها ، وإن هزمتك قتلتك بذلك السيف ، حتى لا يبقى منك حرف تنثره ، ولا قولاً تقوله ...
فهِبْتُه باديءَ الأمر ، إلا أني رأيته بلا حجة يتكيء عليها ، ولا برهانٍ يتمسك به ، فشجعتني قريحتي بأن أجادله ، وأماريه ، وأناظره ، حتى أكسب المعركة ، وأنتصر فيها انتصاراً مؤزّراً ، وأجعل ذلك المحارب معاقباً معزّراً …
فكانت لي معه هذه المناظرة :

النثر : هات ما عندك أيها الشعر ، فإنك عن هزيمتي بعيد ، وأمرك في المعركة غير سديد .
الشعر : كيف تدعي أنك في الأدب ذا جمالٍ ، وليس لك نصيب من وزن المقال ، ولا من تذوقِ الشعراء من النساء والرجال ؟
النثر : إنني من اللغة التي أنت منها ، ولي شأن عالٍ بها .
الشعر : إنه قد ينتمي إلى الأسرة إخوة وأخوات ، وهم ليسوا سواسية في المرتبات ، بل هم درجات ودرجات .
النثر : أما وقد أقْررتَ بهذا الشيء فإني أعلى منك مكاناً ، وسأبرهن لك على ذلك برهاناً .
الشعر : قل فإني سامع لقولك ، وإني لمتأمل لكلامك .
النثر : ألستُ أملأ جنباتي بجماليات البيان ، وروائع المعاني ، ومحاسن البديع ، فأخرج بأجمل حلة ، وبأبهى صورة ، فيعجب لجمالي القارئون ، ويتغنى بروعتي المتأملون ؟
الشعر : إنك تخرج بما ذكرتَ من جمال البلاغة ، وروعة العبارة ، ولكن ينقصك الوزْن ، حتى تجاريني في جمال المتن ، فإن وزن الكلام لديّ ، مما يعجب كل فصيح عربيّ .
النثر : إن ما ذكرت من الوزن لا يتذوقه إلا الذين يطربون له ، أما ما لدي من العبارات فهي لكل من رامه بطرفه ، يفهمه ويعيه بيسر دون عسر ، فأنا أدَلُّ على العقل ، وأنت أدل على العاطفة والأحاسيس ، والعقل مقدم على العاطفة في معالي الأمور .
الشعر : أما وقد ذكرت ذلك فإنه بسببي قد خلَّد التاريخ ذكر أقوام من الشعراء الفطاحل ، بقيت أشعارهم ، وسَرَت أخبارهم ، حتى شاع أمرها بين الناس ، وتلذذوا بروايتها في الرخا والباس ، فليس لك كشأني أيها النثر .
النثر : لم يخلد التاريخ كمثل من خلدوا بسببي ، فقد خلد التاريخ ذكر العلماء والمحدثين الذين لم يلتفوا لك ، بل كتبوا بي كتبهم ، وألفوا بي مؤلفاتهم ، وإن التفتوا إليك لم يلتفتوا إليك إلا استشهاداً مضمَّناً بين أسطر كتبهم ، فهل بيننا مساواة بعد هذا ؟
الشعر : بل إنني أميزُ منك في الشان ، وأرفع منك في المكان ، ألم أكن في يوم من الأيام مرتعاً لعبارات الحكمة ، وألفاظ النصح والعبرة ، حتى تمثلَّ بها كل لسان ، واستشهدوا في كل مقام ، وأشاروا إليها بكل بنان ؟
النثر : إنهم لو وزنوا الحكمة التي لديك في كفة ووزنوا غيرها في أخرى ، لرجح غيرها بالوزن ، فلا عبرة بالقليل ، وإنما العبرة بالكثير ، وليس الحال لديَّ كذلك ، بل إن الحكمة لدي كثيرة ، وإن وجد غيرها ، والنصيحة لدي وافرة ، وإن وجد ضدها .
الشعر : إن كنت كما قلتَ فإن هذا لا يرفع من شأنك كثيراً ، فالحكمة فيَّ يصعب نسيانها ، والنصيحة فيَّ أقرب إلى القبول ، لجمال النظم ، وسهولة الفهم .
النثر : أما علمت أيها الشعر أن الله تعالى في كتابه العظيم قد ذمَّ من يتمثَّل بك ، فقال : (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) ، وفي الصحيح أن نبي الله محمداً صلى الله عليه وسلم قال : (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ، أوما علمتَ ذلك ؟
الشعر : قد فهمتَ الشيء في غير محله ، ووضعتَ الشيء في غير موضعه ، فإنَّ الله ذمّ الشعراء الذين هذا حالهم ، واستثنى بعد ذلك فقال : (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعدما ظلموا) ، فأنا في حق هؤلاء محمود غير مذموم ، وأما حديث نبينا المصطفى ، فإنه قد نهى عن مجرد الامتلاء لما يسببه ذلك من الإلهاء ، عن عبادة الله وذكره ، وأما الأخذ منه بمقدار فلا بأس ، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حساناً بهجاء الكفار شعراً فقال : (اهجهم وجبريل معك) ، أليس يكفيني هذا فخراً وشرفاً ؟
النثر : إذا كنت تفخر بذلك فإني لا ألومك ؛ لأنك في ذلك محق ، ولكن نسيت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وبليغ العبارات ، ولم يكن شاعراً بل كان ناثراً يتكلم بالكلام المؤثر ، فيسمع منه ويطاع ، بل إن الله تعالى نفى عنه الشعر فقال تعالى : (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) ، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر وإنما ناثراً ، وما علمتُ من الأنبياء من كان شاعراً ، وهم إلى هذا أفضل البشر والخلق ، فهل لك الشرف والمكانة بعد هذا ؟
الشعر : قد أفحمتني أيها النثر ، وانتصرت عليَّ النصر المؤزر ، وقد اعترفت لك بالهزيمة ، فإنك عندي ذو مكانة رفيعة ، فهاك سيف البلاغة ، وأرني مما لديك من شامخ العبارة ، فإني بك معجب ، إذ إنك في مقدَّم الركب .
النثر : بل أشاركك السيف لنكون على الحق يداً واحدة ، وعلى الباطل قوة صاعدة ، فأنت لي خير أمين ، والله لي ولك خير معين .


هناك تعليق واحد: